د. رضا عطية يكتب عن أستاذه في ذكراه.. أسطورة الحداثة النقدية الخالدة

د. صلاح فضل ود. رضا عطية
د. صلاح فضل ود. رضا عطية

يبقى شيخ النقاد العرب د. صلاح فضل بما قدم من عطاءاتٍ استثنائيٍة للثقافة، والنقد العربى رمزًا خالدًا، وبمثابة أسطورة للحداثة النقدية، فهو صاحب الإسهام الأكبر بين رفاقه من نقاد الحداثة العربية فى تقديم المناهج النقدية الحداثية كالبنيوية، ومنهج الواقعية الذى تضمن فى ثناياه مبادئ القراءة الثقافية للأدب، وعلم الأسلوب وبلاغة الخطاب وعلم النص، وكذلك القراءة «السيميولوجية» للأدب، فترجع قيمة هذه الإسهامات المتفردة لفضل بأنَّها أسهمت فى إحداث نقلٍة نوعيٍة هائلة فى أساليب دراسة النص الأدبي، فكانت هذه المناهج التى قام «فضل» بتوطينها فى حقول الثقافة العربية بمثابة روافد جديدة فى التعاطى النقدى مع المنتج الجمالي، إذ تبحث هذه المناهج فى مجملها فى بنية الشكل للنص الأدبى، واستشراف ملامحه الجمالية البارزة وربط ذلك بمضامينه، فمثلاً فى دراسته البنوية لرواية «يوم قتل الزعيم» يستنتج «فضل» من توظيف «نجيب محفوظ» للشخصيات، وكذلك الرواة، أصوات السرد، بالحضور الكثيف لجيلى الجد، مثلاً فى شخصية «محتشمى زايد»، والأحفاد، ممثلين فى «علوان فواز محتشمى زايد» و«رندة سليمان مبارك»، أنَّ غياب جيل الوسط جيل الآباء يؤشر على غيابهم عن الفاعلية والتأثير، لأنَّ ظروف المعيشة قد استنزفتهم، وكذلك يسعى لإقامة تناقض فادح بين جيل نشأ، وطلع إلى الحياة مع ثورة 1919، وجيل شاب يواجه الحياة بقسوتها فى عصر الانفتاح الاقتصادى أواخر عهد الرئيس الراحل أنور السادات.

كثيرًا ما كان «صلاح فضل» يردد أمامى مقولة «كلهم أبنائي»، هذا العنوان الذى يستعيره من «آرثر» ميللر، ليجعله مبدأ نقديًّا للناقد الباحث عن التميُّز والراغب فى تحقيق جدارة، بأن ينوّع فى جهده النقدى بين مختلف أنواع الإبداع وأجناس الأدب، ولذا فقد تميز «صلاح فضل»، وأجاد فى توزيع عطائه النقدى بين الرواية، والشعر، وكذلك المسرح، فضلاً عن جهده الفارق فى مجال التنظير النقدي.

اقرأ أيضاً |وزير العدل يتفقد المبنى الجديد للشهر العقارى ببورفؤاد

وفى مجال نقد الشعر طاف «فضل» فى أرجاء الشعر العربي: من نصوصه التراثية القديمة إلى أحدث نصوصه لأجياله الجديدة، لكنى يحلو لى أن أستدعى غير تجربة لصلاح فضل فى قراءة النص الشعرى كانت بمثابة مغامرة نقدية، ففى منتصف الثمانينيات قدم «فضل» دراسة فريدة من نوعها لم يسبقه إلى مثلها ناقد عربى آخر ولم يأتِ بعده من خاض غمار التجربة بنفس البراعة والاقتدار، ذلك حين طبق ثلاثة مناهج نقدية مختلفة على نص شعري، هو المقطوعة الغزلية لأحمد شوقى التى يقول مطلعها: خدعوها بقولهم حسناء .... والغوانى يغرهن الثناء، فطبق «فضل» المنهج التاريخى الاجتماعى ليكشف عن أن تلك المقطوعة «الباريسية» من شعر شوقى إنَّما يحاكى فيها المجتمع «الباريسى» المنفتح، والمنهج النفسى ليبرز أن الشاعر بقدر ما يحاول أن يمثِّل لغرور الأنثى، وانقلابها عليه لتلقيها الثناء، بقدر ما يكشف عما يضمره الشاعر نفسه من غرور،ٍ أو اعتدادٍ مفرط بالذات، حين يجرى على لسان الأنثى مقولة: أنتم الناس أيها الشعراء، التى تكرس لاستثنائية طبقة الشعراء، أما القراءة «البنوية» للنص الشعرى فقد كشفت عن بنى التوازى التركيبى لمكونات الأشطر الشعرية، ووازى «فضل» بين هذا النص، ونصوصٍ أخرى لشوقي، وكانت مقدمة «فضل» التنظيرية فى كتابه، «الأساليب الشعرية المعاصرة»، بمثابة سبقٍ نقدى ليس على مستوى الدرس النقدى العربى فقط، ولكن على صعيد دراسة الشعر فى أية لغة إنسانية، بما أقامه من بنيةٍ نسقيٍة لمكونات الشعر وسلم للدرجات الشعرية وتصنيفٍ للأنواع الشعرية من حيث أساليبها، حيث قسم الأساليب الشعرية بين الحسى، والحيوى، والدرامى، والرؤيوي.

ولصلاح فضل جهد مختلف فى المسرح بدا أثره البالغ فى تعريفنا بالمسرح الإسباني؛ تراثه الكلاسيكى، وجديده، وترجماته الرائعة لنصوص عددٍ من أعلام المسرح الإسبانى مثل : «دى بيكا» و«باييخو» و«كالدرون».

ويبقى هناك دور نبيل لصلاح فضل المثقف الوطنى دفاعًا عن حرية الإبداع فى كثيرٍ من المواقف، وكذلك مساهمته فى الصياغة اللغوية لأحدث دستور «مصر عام 2014»، ووقوفه فى الصف الأول لمثقفى مصر المستنيرين دفاعًا عن هوية مصر الحضارية فى مواجهة جماعات الظلاميين والإخوان المسلمين الذين حاولوا اختطاف وطنٍ ونسخ هويته، وهذا ما يجعلنا ندعو وزارة الثقافة المصرية إلى استثمار إرث «صلاح فضل» العظيم، ورد الجميل له بطباعة كتبه التى طالما يُقبل عليها الباحثون، والمثقفون فى كل أنحاء الوطن العربى، وكذلك دراسة منجزه الكبير، وهذا واجب مجلة «فصول» النقدية التى أسهم «فضل» فى تأسيسها.